سورة الحج - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


هذه السورة مكية إلا {هذان خصمان} إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد، وعن ابن عباس أيضاً إنهن أربع آيات إلى قوله {عذاب الحريق} وقال الضحاك: هي مدنية. وقال قتادة: إلاّ من قوله {وما أرسلنا من قبلك من رسول}- إلى قوله- {عذاب مقيم} وقال الجمهور: منها مكي ومنها مدني.
ومناسبة أول هذه السورة لما قبلها أنه ذكر تعالى حال الأشقياء والسعداء وذكر الفزع الأكبر وهو ما يقول يوم القيامة، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم. نزلت هذه السورة تحذيراً لهم وتخويفاً لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة وشدّة هولها، وذكر ما أعد لمنكرها وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات، والظاهر أن قوله {يا أيها الناس} عام. وقيل: المراد أهل مكة، ونبه تعالى على سبب اتقائه وهو ما يؤول إليه من أهوال الساعة وهو على حذف مضاف أي {اتقوا} عذاب {ربكم}، والزلزلة الحركة المزعجة وهي عند النفخة الأولى. وقيل: عند الثانية. وقيل: عند قول الله يا آدم ابعث بعث النار. وقال الجمهور: في الدنيا آخر الزمان ويتبعها طلوع الشمس من مغربها. وعن الحسن: يوم القيامة. وعن علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها، وأضيفت إلى الساعة لأنها من أشراطها، والمصدر مضاف للفاعل فالمفعول المحذوف وهو الأرض يدل عليه {إذا زلزلت الأرض زلزالها} والناس ونسبة الزلزلة إلى {الساعة} مجاز، ويجوز أن يضاف إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف، فتكون {الساعة} مفعولاً بها وعلى هذه التقادير يكون ثم {زلزلة} حقيقة.
وقال الحسن: أشد الزلزال ما يكون مع قيام الساعة. وقيل: الزلزلة استعارة، والمراد أشد الساعة وأهوال يوم القيامة و{شيء} هنا يدل على إطلاقه على المعدوم لأن الزلزلة لم تقع بعد، ومن منع إيقاعه على المعدوم قال: جعل الزلزلة شيئاً لتيقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود.
وذكر تعالى أهول الصفات في قوله {ترونها} الآية لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم ليكون ذلك حاملاً على تقواه تعالى إذ لا نجاة من تلك الشدائد إلاّ بالتقوى. وروي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدراً، وكانوا من بين حزين باك ومفكر. والناصب ليوم {تذهل} والظاهر أن الضمير المنصوب في {ترونها} عائداً على الزلزلة لأنها المحدث عنها، ويدل على ذلك وجود ذهول المرضعة ووضع الحمل هذا إذا أريد الحقيقة وهي الأصل، ويكون ذلك في الدنيا. وعن الحسن {تذهل} المرضعة عن ولدها لغير فطام {وتضع} الحامل ما في بطنها لغير تمام.
وقالت فرقة: الضمير يعود على {الساعة} فيكون الذهول والوضع عبارة عن شدة الهول في ذلك اليوم، ولا ذهول ولا وضع هناك كقولهم: يوم يشيب فيه الوليد. وجاء لفظ {مرضعة} دون مرضع لأنه أريد به الفعل لا النسب، بمعنى ذات رضاع. وكما قال الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت *** بني بطنها هذا الضلال عن القصد
والظاهر أن ما في قوله {عما أرضعت} بمعنى الذي، والعائد محذوف أي أرضعته، ويقويه تعدي وضع إلى المفعول به في قوله {حملها} لا إلى المصدر. وقيل: ما مصدرية أي عن إرضاعها. وقال الزمخشري: المرضعة هي التي في حال الإرضاع تلقم ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به. فقيل {مرضعة} ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبيّ بمرضعة والمستأجرة بمرضع وهذا باطل بقول الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ***
البيت فهذه {مرضعة} بالتاء وليست أمَّا للذي ترضع. وقول الكوفيين إن الوصف الذي يختص بالمؤنث لا يحتاج فيه إلى التاء لأنها إنما جيء بها للفرق مردود بقول العرب مرضعة وحائضة وطالقة.
وقرأ الجمهور {تذهل كل} بفتح التاء والهاء ورفع كل، وابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسر الهاء أي {تذهل} الزلزلة أو الساعة كل بالنصب، والحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة. وقرأ الجمهور {وترى} بالتاء مفتوحة خطاب المفرد وزيد بن علي بضم التاء وكسر الراء أي وترى الزلزلة أو الساعة. وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره بضم التاء وفتح الراء، ورفع {الناس} وأنث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا {الناس} عدّى {ترى} إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الضمير المستكن في {ترى} وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله، والثاني والثالث {الناس سكارى} أثبت أنهم {سكارى} على طريق التشبيه ثم نفى عنهم الحقيقة وهي السكر من الخمر، وذلك لما هم فيه من الحيرة وتخليط العقل.
وقرأ الجمهور {سُكارى} فيهما على وزن فعالى وتقدم ذكر الخلاف في فعالى بضم الفاء أهو جمع أو اسم جمع. وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما وهو جمع تكسير واحده سكران. وقال أبو حاتم: هي لغة تميم. وقرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح سُكرى فيهما، ورويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم رواها عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة. وقال سيبويه: وقوم يقولون سكرى جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان، ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهم المستثقلون نوماً من شرب الرائب.
قال أبو علي الفارسي: ويصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن، وقد حكى سيبويه: رجل سكر بمعنى سكران فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش سُكرى بضم السين فيهما. قال أبو الفتح: هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو عليّ انتهى. وقال الزمخشري: هو غريب. وقال أبو الفضل الرازي: فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد انتهى. وعن أبي زرعة أيضاً سُكرى بفتح السين بسُكرى بضمها. وعن ابن جبير أيضاً سكرى بالفتح من غير ألف {بسكارى} بالضم والألف. وعن الحسن أيضاً {سكارى} بسكرى. وقال أو لا ترونها على خطاب الجمع جعلوا جميعاً رائيين لها. ثم قال {وترى} على خطاب الواحد لأن الرؤية معلقة بكون الناس على حال السكر، فجعل كل واحد رائياً لسائرهم غشيهم من خوف عذاب الله ما أذهب عقولهم وردهم في حال من يذهب السكر عقله وتمييزه، وجاء هذا الاستدراك بالإخبار عن {عذاب الله} أنه {شديد} لما تقدم ما هو بالنسبة إلى العذاب كالحالة اللينة وهو الذهول والوضع ورؤية الناس أشباه السكارى، وكأنه قيل: وهذه أحوال هينة {ولكن عذاب الله شديد} وليس بهين ولا لين لأن لكن لا بد أن تقع بين متنافيين بوجه ما وتقدم الكلام فيها.
{ومن الناس من يجادل في الله} أي في قدرته وصفاته. قيل: نزلت في أبي جهل. وقيل: في أُبيّ بن خلف والنضر بن الحارث. وقيل: في النضر وكان جدلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين، ولا يقدر الله على إحياء من بَلي وصار تراباً والآية في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرفع إلى علم ولا برهان ولا نصفة. والظاهر أن قوله {كل شيطان مريد} هو من الجن كقوله {وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً} وقيل: يحتمل أن يكون من الإنس كقوله {شياطين الإنس والجن} لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ذكر من غفل عن الجزاء في ذلك اليوم وكذب به. وقرأ زيد بن عليّ {ويتبع} خفيفاً، والظاهر أن الضمير في {عليه} عائد على {من} لأنه المحدث عنه، وفي {أنه} و{تولاه} وفي {فإنه} عائد عليه أيضاً، والفاعل يتولى ضمير {من} وكذلك الهاء في {يضله} ويجوز أن تكون الهاء في هذا الوجه أنه ضمير الشأن، والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماماً في الضلال لمن يتولاه، فشأنه أن يضل من يتولاه. وقيل: الضمير في {عليه} عائد على {كل شيطان مريد} قاله قتادة ولم يذكر الزمخشري غيره، وأورد ابن عطية القول الأول احتمالاً. وقال ابن عطية: ويظهر لي أن الضمير في {أنه} الأولى للشيطان والثانية لمن الذي هو للمتولي.
قال الزمخشري: والكتبة عليه مثل أي إنما {كتب} إضلال من يتولاه {عليه} ورقم به لظهور ذلك في حاله.
وقرأ الجمهور {كُتِبَ} مبنياً للمفعول. وقرئ {كَتَبَ} مبنياً للفاعل أي كتب الله. وقرأ الجمهور: {أنه} بفتح الهمزة في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، {فأنه} بفتحها أيضاً، والفاء جواب {من} الشرطية أو الداخلة في خبر {من} إن كانت موصولة. و{فأنه} على تقدير فشأنه أنه {يضله} أي إضلاله أو فله أن يضله.
وقال الزمخشري: فمن فتح فلأن الأول فاعل {كتب} بعني به مفعولاً لم يسم فاعله، قال: والثاني عطف عليه انتهى. وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت {فأنه} عطفاً على {أنه} بقيت بلا استيفاء خبر لأن {من تولاه} {من} فيه مبتدأة، فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبراً لأنه وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها إذ جعلت {فأنه} عطفاً على {أنه} ومثل قول الزمخشري قال ابن عطية قال {وأنه} في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، وأنه الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها، وخطا خطأ لما بيناه. وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمر و{إنه} {فإنه} بكسر الهمزتين. وقال ابن عطية: وقرأ أبو عمرو {إنه من تولاه فإنه يضله} بالكسر فيهما انتهى، وليس مشهوراً عن أبي عمرو. والظاهر أن ذلك من إسناد {كتب} إلى الجملة إسناداً لفظياً أي {كتب} عليه هذا الكلام كما تقول: كتب أن الله يأمر بالعدل. وقال الزمخشري: أو عن تقدير قبل أو على المفعول الذي لم يسم فاعله الكتب، والجملة من {أنه من تولاه} في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لقيل المقدرة، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة فلا يكون ذلك مفعولاً لم يسم فاعله، وأما الثاني فلا يجوز أيضاً على مذهب البصريين لأنه لا تكسر أن بعد ما هو بمعنى القول، بل بعد القول صريحة، ومعنى {ويهديه} ويسوقه وعبر بلفظ الهداية على سبيل التهكم.
ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم وكان جدالهم في الحشر والمعاد ذكر دليلين واضحين على ذلك أحدهما في نفس الإنسان وابتداء خلقه، وتطوره في مراتب سبع وهي التراب، والنطفة، والعلقة، والمضغة، والإخراج طفلاً، وبلوغ الأشدّ، والتوفي أو الرد إلى الهرم. والثاني في الأرض التي تشاهدون تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلاً فإذا ورد خبر الشرع بوقوعه وجب التصديق به وأنه واقع لا محالة.
وقرأ الحسن {من البَعث} بفتح العين وهي لغة فيه كالحلب والطرد في الحلب والطرد، والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف يقيسونه فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر، والبصريون لا يقيسونه وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان.
والمعنى إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم {من تراب} أي أصلكم آدم وسلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته، أو باعتبار وسائط التولد لأن المني ودم الطمث يتولدان من الأغذية والأغذية حيوان ونبات، والحيوان يعود إلى النبات، والنبات من الأرض والماء والنطفة المني. وقيل {نطفة} آدم قاله النقاش. والعلقة قطعة الدم الجامدة ومعنى {وغير مخلقة} أي ليست كاملة ولا ملساء فالمضغ متفاوتة لذلك تفاوتوا طولاً وقصراً وتماماً ونقصاناً. وقال مجاهد {غير مخلقة} هي التي تستسقط وقاله قتادة والشعبي وأبو العالية. ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة.
وقرأ ابن أبي عبلة {مخلقة} بالنصب وغير بالنصب أيضاً نصباً على الحال من النكرة المتقدمة، وهو قليل وقاسه سيبويه. قال الزمخشري: و{لنبين لكم} بهذا التدريج قدرتنا وإن من قدر على خلق البشر {من تراب} أولاً {ثم من نطفة} ثانياً ولا تناسب بين التراب والماء، وقدر على أن يجعل النطفة {علقة} وبينهما تباين ظاهر ثم يجعل العلقة {مضغة} والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبداه، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الفكر ولا يحيط به الوصف انتهى.
و {لنبين} متعلق بخلقناكم. وقيل {لنبين} لكم أمر البعث. قال ابن عطية: وهو اعتراض بين الكلامين. وقال الكرماني: يعني رشدكم وضلالكم. وقيل {لنبين لكم} أن التخليق هو اختيار من الفاعل المختار، ولولاه ما صار بعضه غير مخلق. وقرأ ابن أبي عبلة ليبين لكم ويقر بالياء. وقرأ يعقوب وعاصم في رواية {ونقر} بالنصب عطفاً على {لنبين}.
وعن عاصم أيضاً ثم يخرجكم بنصب الجيم عطفاً على {ونقر} إذا نصب. وعن يعقوب {ونقر} بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه. وقرأ أبو زيد النحوي ويقر بفتح الياء والراء وكسر القاف وفي الكلام لابن حبار {لنبين} {ونقر} {ونخرجكم} بالنصب فيهن. المفضل وبالياء فيهما مع النصب، أبو حاتم وبالياء والرفع عمر بن شبة انتهى.
قال الزمخشري: والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره من ذلك. {إلى أجل مسمى} وهو وقت الوضع وما لم يشأ إقراره مجته الأرحام أو أسقطته. والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل والمعنى {خلقناكم} مدرجين هذا التدريج لغرضين أحدهما: أن نبين قدرتنا والثاني أن {نقر في الأرحام} من نقر حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم. ويعضد هذه القراءة قوله {ثم لتبلغوا أشدكم} انتهى.
وقرأ يحيى بن وثاب {ما نشاء} بكسر النون والأجل المسمى مختلف فيه بحسب جنين جنين فساقط وكامل أمره خارج حياً ووحد {طفلاً} لأنه مصدر في الأصل قاله المبرد والطبري، أو لأن الغرض الدلالة على الجنس، أو لأن معنى يخرجكم كل واحد كقولك: الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد.
وقال الزمخشري: الأشد كمال القوة والعقل والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأشدة والقيود وغير ذلك وكأنها مشدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع انتهى.
وتقدم الكلام في الأشد ومقداره من الزمان. وإن من الناس من قال إنه جمع شدة كأنعم جمع نعمة وأما القيود: فعن أبي عمرو الشيباني إن واحدة قيد {ومنكم من يتوفى} وقرئ {يتوفى} بفتح الياء أي يُسْتَوْفَى أجله، والجمهور بالضم أي بعد الأشد وقبل الهرم، وهو {أرذل العمر} والخرف، فيصبر إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل، ولا زمان لذلك محدود بل ذلك بحسب ما يقع في الناس وقد نرى من علت سنه وقارب المائة أو بلغها في غاية جودة الذهن والإدراك مع قوة ونشاط، ونرى من هو في سن الاكتهال وقد ضعفت بنيته أوضح تعالى أنه قادر على إنهائه إلى حالة الخرف كما أنه كان قادراً على تدريجه إلى حالة التمام، فكذلك هو قادر على إعادة الأجساد التي درجها في هذه المناقل وإنشائها النشأة الثانية.
و {لكيلا} يتعلق بقوله {يرد} قال الكلبي {لكيلا} يعقل من بعد عقله الأول شيئاً. وقيل {لكيلا} يستفيد علماً وينسى ما علمه. وقال الزمخشري: أي ليصير نسَّاءً بحيث إذا كسب علماً في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه. وروى عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم {العمر}.
{وترى الأرض هامدة} هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته، والدليل الأول الآية، ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرتبين قال {إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم} فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية، ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهداً للأبصار أحال ذلك على الرؤية فقال {وترى} أيها السامع أو المجادل {الأرض هامدة} ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن و{الماء} ماء المطر والأنهار والعيون والسواني واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات {وربت} أي زادت وانتفخت. وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز هنا وفي فصلت أي ارتفعت وأشرفت، يقال: فلان يربأ بنفسه عن كذا: أي يرتفع بها عنه. قال ابن عطية: ووجهها أن يكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكان الأرض بالماء تتطاول وتعلو انتهى. ويقال ربيء وربيئة. وقال الشاعر:
بعثنا ربيئاً قبل ذلك مخملاً *** كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقى
ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطورهم في تلك المراتب، ومن إحياء الأرض حاصل بهذا وهو حقيقته تعالى فه الثابت الموجود القادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وقد وعد بالبعث وهو قادر عليه فلا بد من كيانه. وقوله {وأن الساعة} إلى آخره توكيد لقوله {وأنه يحيي الموتى} والظاهر أن قوله {وأن الساعة آتية} ليس داخلاً في سبب ما تقدم ذكره، فليس معطوفاً على أنه الذي يليه، فيكون على تقدير. والأمر {أن الساعة} وذلك مبتدأ وبأن الخبر. وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك.


الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية قبلها، فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شريق. وعن ابن عباس في أبي جهل. وقيل: الأولى في المقلدين وهذه في المقلدين، والجمهور على أنها والتي قبلها في النضر كررت مبالغة في الذم، ولكون كل واحدة اشتملت على زيادة ليست في الأخرى. وقد قيل فيه: إنه نزلت فيه بضع عشرة آية. وقال ابن عطية: وكرر هذه على وجه التوبيخ، فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان {ومن الناس} مع ذلك {من يجادل} فكان الواو واو الحال، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي ههنا مكررة للتوبيخ انتهى. ولا يتخيل أن الواو في {ومن الناس من يجادل} واو حال، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحاً بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل {في الله بغير علم} متبع لشيطان مريد، ومجادل {بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} إلى آخره، وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي أي {يجادل} بغير واحد من هذه الثلاثة.
وانتصب {ثاني عطفه} على الحال من الضمير المستكن في {يجادل} قال ابن عباس: متكبراً، ومجاهد: لاوياً عنقه بقبح، والضحاك: شامخاً بأنفه وابن جريج: مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية {ليَضل} بفتح الياء أي {ليضل} في نفسه والجمهور بضمها أي {ليُضل} غيره، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب، إذ عليه وزر من عمل به. ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له، وكذلك لما كان معرضاً عن الهدى مقبلاً على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال.
والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة، وقد أسر النضر. وقيل: يوم بدر بالصفراء. و{الحريق} قيل طبقة من طباق جهنم، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع.
وقرأ زيد بن عليّ فأذيقه بهمزة المتكلم ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة، وجوزوا في إعراب ذلك هذا ما جوزوا في إعراب ذلك بأن الله هو الحق. وتقدم المراد في {بما قدمت يداك} أي باجترامك وبعدل الله فيك إذ عصيته، ويحتمل أن يكون وأن الله مقتطعاً ليس ذلك في السبب والتقدير والأمر أن الله. قال ابن عطية: والعبيد هنا ذكروا في معنى مسكنتهم وقلة قدرتهم، فلذلك جاءت هذه الصيغة انتهى. وهو يفرق بين العبيد والعباد وقد رددنا عليه تفرقته في أواخر آل عمران في قوله
{وأن الله ليس بظلام للعبيد} وشرحنا هنا قوله {بظلام}.
من {يعبد الله} نزلت في أعراب من أسلم وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا. وقيل: في أعراب لا يقين لهم يسلم أحدهم فيتفق تثمير ماله وولادة ذكر وغير ذلك من الخير، فيقول: هذا دين جيد أو ينعكس حاله فيتشاءم ويرتد كما جرى للعرنيين قال معناه ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس: في شيبة بن ربيعة أسلم قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أوحى إليه ارتد. وقيل: في يهودي أسلم فأصيب فتشاءم بالإسلام، وسأل الرسول إلا قاله فقال: «إن الإسلام لا يقال» فنزلت. وعن الحس: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه. وقال ابن عيسى: على ضعف يقين. وقال أبو عبيد {على حرف} على شك. وقال ابن عطية {حرف} على انحراف منه عن العقيدة البيضاء، أو على شفا منها معداً للزهوق.
وقال الزمخشري {على حرف} على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسن بظفر وغنيمة قرّ واطمأنّ وإلاّ فرّ وطار على وجهه انتهى. وخسرانه الدنيا إصابته فيها بما يسوؤه من ذهاب ماله وفقد أحبائه فلم يسلم للقضاء. وخسران الآخرة حيث حرم ثواب من صبر فارتد عن الإسلام.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم خاسر الدنيا اسم فاعل نصباً على الحل. وقرئ خاسر اسم فاعل مرفوعاً على تقدير وهو خاسر. وقال الزمخشري: والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير وهو وجه حسن انتهى. وقرأ الجمهور: {خسر} فعلاً ماضياً وهو استئناف إخبار، ويجوز أن يكون في موضع الحال ولا يحتاج إلى إضمار قد لأنه كثر وقوع الماضي حالاً في لسان العرب بغير قد فساغ القياس عليه، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون بدلاً من قوله {انقلب على وجهه} كما كان يضاعف بدلاً من يلق. وتقدم تفسير {الضلال البعيد} في قوله {ضلالاً بعيداً} ونفى هنا الضر والنفع وأثبتهما في قوله {لمن ضره أقرب من نفعه} وذلك لاختلاف المتعلق، وذلك أن قوله {ما لا ينفعه} هو الأصنام والأوثان، ولذلك أتى التعبير عنها بما التي لا تكون لآحاد من يعقل. وقوله {يدعو لمن ضره} هو من عبد باقتضاء، وطلب من عابديه من المدعين الإلهية كفرعون وغيره من ملوك بني عبيد الذين كانوا بالمغرب ثم ملكوا مصر، فإنهم كانوا يدعون الإلهية ويطاف بقصرهم في مصر وينادون بما ينادي به رب العالمين من التسبيح والتقديس، فهؤلاء وإن كان منهم نفع مّا لعابديهم في دار الدنيا فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم، إذ هم في الدنيا مملوكون للكفار وعابدون لغير الله، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم ولهذا كان التعبير هنا بمن التي هي لمن يعقل، وعلى هذا فتكون الجملتان من إخبار الله تعالى عمن يدعو إلهاً غير الله.
وقال الزمخشري: فإن قلت: الضر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا تناقض قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه بجهله وضلالته أن سينتفع به، ثم قال يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها {لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} وكرر يدعوا كأنه قال {يدعو} {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه} ثم قال {لمن ضره} بكونه معبوداً {أقرب من نفعه} بكونه شفيعاً {لبئس المولى} انتهى. فجعل الزمخشري المدعو في الآيتين الأصنام وأزال التعارض باختلاف القائلين بالجملة الأولى من قول الله تعالى إخباراً عن حال الأصنام. والجملة الثانية من كلام عباد الأصنام يقولون ذلك في الآخرة، وحكى الله عنهم ذلك وأنهم أثبتوا ضراً بكونهم عبدوه، وأثبتوا نفعاً بكونهم اعتقدوه شفيعاً. فالنافي هناك غير المثبت هنا، فزال التعارض على زعمه والذي أقول إن الصنم ليس له نفع ألبتة حتى يقال {ضره أقرب من نفعه}.
وأجاب بعضهم عن زعم من زعم أن الظاهر الآيتين يقتضي التعارض بأنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها نسب الضرر إليها كقوله {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} أضاف الإضلال إليهم إذ كانوا سبب الضلال، فكذا هنا نفي الضرر عنهم لكونها ليست فاعلة ثم أضافه إليها لكونها سبب الضرر. وقال آخرون: هي في الحقيقة لا تضر ولا تنفع بين ذلك في الآية الأولى ثم أثبت لها الضر والنفع في الثانية على طريق التسليم، أي ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها، وتكلف المعربون وجوهاً فقالوا {يدعو} إما أن يكون لها تعلق بقوله {لمن ضره} أولاً إن لم يكن لها تعلق فوجوه.
أحدها: أن يكون توكيداً لفظياً ليدعو الأولى، فلا يكون لها معمول.
الثاني: أن تكون عاملة في ذلك من قوله {ذلك هو الضلال} وقدم المفعول الذي هو {ذلك} وجعل موصولاً بمعنى الذي قاله أبو علي الفارسي، وهذا لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة أن يكون موصولاً، والبصريون لا يجيزون ذلك إلاّ في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من.
الثالث: أن يكون {يدعو} في موضع الحال، {وذلك} مبتدأ وهو فصل أو مبتدأ وحذف الضمير من {يدعو} أي يدعوه وقدره مدعواً وهذا ضعيف، لأن يدعوه لا يقدر مدعواً إنما يقدر داعياً، فلو كان يدعى مبنياً للمفعول لكان تقديره مدعواً جارياً على القياس.
وقال نحوه الزجاج وإن كان له تعلق بقوله {لمن ضره} فوجوه.
أحدها: ما قاله الأخفش وهو أن {يدعو} بمعنى يقول و{من} مبتدأ موصول صلته الجملة بعده. وهي {ضره أقرب من نفعه} وخبر المبتدأ محذوف، تقديره إله وإلهي. والجملة في موضع نصب محكية بيدعو التي هي بمعنى يقول، قيل: هو فاسد المعنى لأن الكافر لم يعتقد قط أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها. وقيل: في هذا القول يكون {لبئس} مستأنفاً لأنه لا يصح دخوله في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم {لبئس المولى}.
الثاني: أن {يدعو} بمعنى يسمي، والمحذوف آخراً هو المفعول الثاني ليسمى تقديره إلهاً وهذا لا يتم إلاّ بتقدير زيادة اللام أي يدعو من ضره.
الثالث: أن يدعو شبه بأفعال القلوب لأن الدعاء لا يصدر إلاّ عن اعتقاد، والأحسن أن يضمن معنى يزعم ويقدر لمن خبره، والجملة في موضع نصب ليدعو أشار إلى هذا الوجه الفارسي.
الرابع: ما قاله الفراء وهو أن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير {يدعو} من لضره أقرب من نفعه، وهذا بعيد لأن ما كان في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول.
الخامس: أن تكون اللام زائدة للتوكيد، و{من} مفعول بيدعو وهو ضعيف لأنه ليس من مواضع زيادة اللام، لكن يقويه قراءة عبد الله يدعو من ضره بإسقاط اللام، وأقرب التوجيهات أن يكون {يدعو} توكيداً ليدعو الأول؛ واللام في {لمن} لام الابتداء، والخبر الجملة التي هي قسم محذوف، وجوابه {لبئس المولى} والظاهر أن {يدعو} يراد به النداء والاستغاثة. وقيل: معناه بعيد، و{المولى} هنا الناصر والعشير الصاحب المخالط.
ولما ذكر تعالى حالة من يعبده على حرف وسفه رأيه وتوعده بخسرانه في الآخرة عقبة بذكر حال مخالفيهم من أهل الإيمان وما وعدهم به من الوعد الحسن، ثم أخذ في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله لن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب ويختلق وينظر هل يذهب بذلك غيظه، قال هذا المعنى قتادة، وهذا على جهة المثل السائر قولهم: دونك الحبل فاختنق، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه، فعلى هذا تكون الهاء في {ينصره} للرسول صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدّي، واختاره الفراء والزجاج فالمعنى إن لن ينصر الله محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه، والرسول وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله {إن الله يدخل الذين آمنوا} وظانّ ذلك قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر أو أعراب استبطؤوا ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم فتباطؤوا عن الإسلام.
والظاهر أن الضمير في {ينصره} عائد على {من} لأنه المذكور، وحق الضمير أن يعود على المذكور وهو قول مجاهد. وحمل بعض قائلي هذا القول النصر هنا على الرزق كما قالوا: أرض منصورة أي ممطورة. وقال الشاعر:
وإنك لا تعطي امراً فوق حقه *** ولا تملك الشق الذي أنت ناصره
أي معطيه. وقال: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله، فالمعنى من كان يظن أن لن يرزقه الله فيعدل عن دين محمد لهذا الظن كما وصف في قوله {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يبلغه إلاّ ما قدر له ولا يجعله مرزوقاً أكثر مما قسم له، ويحتمل على هذا القول أن يكون النصر على بابه أي من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فيغتاظ لانتفاء نصره فليمدد، ويدل على قوله فيغتاظ قوله {هل يذهبن كيده ما يغيظ} ويكون معنى قوله {فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع} فليتحيل بأعظم الحيل في نصرة الله إياه ثم ليقطع الحبل {فلينظر هل يذهبن كيده} وتحيله في إيصال النصر إليه الشيء الذي يغيظه من انتفاء نصره بتسلط أعدائه عليه.
وقال الزمخشري: هذا كلام دخله اختصار والمعنى: أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلاً إلى سماء بيته فاختنق، {فلينظر} وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، ومنه قيل للبهر القطع وسمى فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه، والمراد ليس في يده إلاّ ما ليس بمذهب لما يغيظه.
وقيل {فليمدد} بحبل {إلى السماء} المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل عليه وهذا قول ابن زيد. وقيل: الضمير في {ينصره} عائد على الدين والإسلام. قال ابن عطية: وأبين وجوه هذه الآية أن يكون مثلاً ويكون النصر المعروف والقطع الاختناق والسماء الارتفاع في الهواء سقف أو شجرة أو نحوه فتأمله، وما في {ما يغيظ} بمعنى الذي، والعائد محذوف أو مصدرية. وكذلك أي ومثل ذلك الإنزال {أنزلنا} القرآن كله {آيات بينات} أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في {أنزلناه} للقرآن أضمر للدّلالة عليه كقوله {حتى توارت بالحجاب} والتقدير والأمر {إن الله يهدي من يريد} أي يخلق الهداية في قلبك يريد هدايته لا خالق للهداية إلاّ هو.


لما ذكر قبل {أن الله يهدي من يريد} عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام، ومن عبد غير الله. قال الزمخشري: ودخلت {إن} على كل واحد جزأي الجملة لزيادة التأكيد، ونحوه قول جرير:
إنَّ الخليفة إنْ الله سربله *** سربال ملك به ترجى الخواتيم
وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ولا يتعين أن يكون البيت كالآية لأن البيت يحتمل أن يكون خبر إن الخليفة قوله: به ترجى الخواتيم، ويكون إن الله سربله سربال ملك جملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله {إن الله يفصل} وحسن دخول {إن} على الجملة الواقعة خبراً طول الفصل بينهما بالمعاطيف، والظاهر أن الفصل بينهم يوم القيامة هو بصيرورة المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار، وناسب الختم بقوله {شهيداً} الفصل بين الفرق.
وقال الزمخشري: الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاءً واحداً بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد. وقيل {يفصل بينهم} يقضي بين المؤمنين والكافرين، والظاهر أن السجود هنا عبارة عن طواعية ما ذكر تعالى والانقياد لما يريده تعالى، وهذا معنى شمل من يعقل وما لا يعقل، ومن {يسجد} سجود التكليف ومن لا يسجده، وعطف على ما من عبد من دون الله ففي {السموات} الملائكة كانت تعبدها و{الشمس} عبدتها حمير. وعبد {القمر} كنانة قاله ابن عباس. والدبران تميم. والشعرى لخم وقريش. والثريا طيئ وعطارداً أسد. والمرزم ربيعة. و{في الأرض} من عبد من البشر والأصنام المنحوتة من {الجبال والشجر} والبقر وما عبد من الحيوان. وقرأ الزهري {والدواب} بتخفيف الباء. قال أبو الفضل الرازي ولا وجه لذلك إلاّ أن يكون فراراً من التضعيف مثل ظلت وقرن ولا تعارض بين قوله {ومن في الأرض} لعمومه وبين قوله {وكثير من الناس} لخصوصه لأنه لا يتعين عطف {وكثير} على ما قبله من المفردات المعطوفة الداخلة تحت يسجد إذ يجوز إضمار {يسجد له} كثير من الناس سجود عبادة دل عليه المعنى لا أنه يفسره {يسجد} الأول لاختلاف الاستعمالين، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز يجيز عطف {وكثير من الناس} على المفردات قبله، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولمن يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي {وكثير من الناس} مثاب.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {من الناس} خبراً له أي {من الناس} الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون، ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فعطفت كثير على كثير ثم، عبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قال {وكثير} {وكثير من الناس حق} عليهم {العذاب} انتهى.
وهذان التخريجان ضعيفان.
وقرأ جناح بن حبيش وكبير حق بالباء. وقال ابن عطية {وكثير حق عليه العذاب} يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي {وكثير حق عليه العذاب} يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره، ونحو ذلك قاله مجاهد وقال سجوده بظله. وقرئ {وكثير} حقاً أي {حق عليهم العذاب} حقاً. وقرئ {حق} بضم الحاء ومن مفعول مقدم بيهن. وقرأ الجمهور {من مكرم} اسم فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر أي من إكرام. قال الزمخشري: ومن أهانه الله كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه، فقد بقي مهاناً لمن يجد له مكرماً أنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة، ولا يشاء من ذلك إلاّ ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه، فقال {هذان} قال قيس بن عباد وهلال بن يساف، نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وعن عليّ: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يديّ الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا ووقع في صحيح البخاري أن الآية فيهم. وقال ابن عباس: الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم، قالت اليهود: نحن أقدم ديناً منكم فنزلت. وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم، وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق، فلذلك جاء {اختصموا} مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم أفراد، وفي رواية عن الكسائي {خِصمان} بكسر الخاء ومعنى {في ربهم} في دين ربهم. وقرأ ابن أبي عبلة اختصما، راعى لفظ التثنية ثم ذكر تعالى ما أعدّ للكفار.
وقرأ الزعفراني في اختياره: {قطعت} بتخفيف الطاء كأنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، والظاهر أن هذا المقطع لهم يكون من النار. وقال سعيد بن جبير {ثياب} من نحاس مذاب وليس شيء إذا حمي أشد حرارة منه، فالتقدير من نحاس محمى بالنار. وقيل: الثياب من النار استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه. وقال وهب: يكسى أهل النار والعري خير لهم، ويحيون والموت خير لهم.
ولما ذكر ما يصب على رؤوسهم إذ يظهر في المعروف أن الثوب إنما يغطى به الجسد دون الرأس فذكر ما يصيب الرأس من العذاب.
وعن ابن عباس: لو سقطت من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ولما ذكر ما يعذب به الجسد ظاهره وما يصب على الرأس ذكر ما يصل إلى باطن المعذب وهو الحميم الذي يذيب ما في البطن من الحشا ويصل ذلك الذوب إلى الظاهر وهو الجلد فيؤثر في الظاهر تأثيره في الباطن كما قال تعالى {فقطع أمعاءهم} وقرأ الحسن وفرقة {يصهر} بفتح الصاد وتشديد الهاء. وفي الحديث: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» والظاهر عطف {والجلود} على {ما} من قوله {يصهر به ما في بطونهم} وأن {الجلود} تذاب كما تذاب الأحشاء. وقيل: التقدير وتخرق {الجلود} لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله:
علفتها تبناً وماء بارداً ***
أي وسقيتها ماء. والظاهر أن الضمير في {ولهم} عائد على الكفار، واللام للاستحقاق. وقيل: بمعنى على أي وعليهم كقوله {ولهم اللعنة} أي وعليهم. وقيل: الضمير يعود على ما يفسره المعنى وهو الزبانية. وقال قوم منهم الضحاك: المقامع المطارق. وقيل: سياط من نار وفي الحديث: «لو وضع مقمع منها في الأرض مث اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض» و{من غم} بدل من منها بدل اشتمال، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم، والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى، أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم {أعيدوا فيها} أي في تلك الأماكن. وقيل {أعيدوا فيها} بضرب الزبانية إياهم بالمقامع {وذوقوا} أي ويقال لهم ذوقوا.
ولما ذكر تعالى ما أعد لأحد الخصمين من العذاب ذكر ما أعد من الثواب للخصم الآخر. وقرأ الجمهور {يُحلونْ} بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الللام. وقرئ بضم الياء والتخفيف. وهو بمعنى المشدد. وقرأ ابن عباس {يحلون} بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم: حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات حلي والمرأة حال. وقال أبو الفضل الرازي: يجوز أن يكون من حَلي يعيني يحلى إذا استحسنته، قال فتكون {من} زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى. وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلاً متعدياً ولذلك حكم بزيادة {من} في الواجب وليس مذهب البصريين، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازماً فإن كان بهذا المعنى كانت {من} للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض. قال أبو الفضل الرازي: ويجوز أن تكون {من} حليت به إذا ظفرت به، فيكون المعنى {يحلون فيها} بأساور فتكون {من} بدلاً من الباء، والحلية من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه الحلية، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى.
ومن معنى الظفر قولهم: لم يحل فلان بطائل، أي لم يظفر. والظاهر أن {من} في {من أساور} للتبعيض وفي {من ذهب} لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب.
وقال ابن عطية: {من} في {من أساور} لبيان الجنس، ويحتمل أن تكون للتبيعض. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف. وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرفه لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف. وقرأ عاصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب {ولؤلؤاً} هنا وفي فاطر بالنصب وحمله أبو الفتح على إضمار فعل وقدره الزمخشري ويؤتون {لؤلؤاً} ومن جعل {من} في {من أساور} زائدة جاز أن يعطف {ولؤلؤاً} على موضع {أساور} وقيل يعطف على موضع {من أساور} لأنه يقدر و{يحلون} حلياً {من أساور}. وقرأ باقي السبعة والحسن أيضاً وطلحة وابن وثاب والأعمش. وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفاً على {أساور} أو على {ذهب} لأن السوار يكون من ذهب ولؤلؤ، يجمع بعضه إلى بعض.
قال الجحدري: الألف ثابتة بعد الواو في الإمام. وقال الأصمعي: ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر همز الأخير وإبدال الأولى. وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك. وقرأ الفياض: ولولياً قلب الهمزتين واواً صارت الثانية واواً قبلها ضمة، عمل فيها ما عمل في أدل من قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس وليلياً أبدل الهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين اتبع الأولى للثانية. وقرأ طلحة ولول مجروراً عطفاً على ما عطف عليه المهموز.
و {الطيب من القول} إن كانت الهداية في الدنيا فهو قول لا إله إلاّ الله، والأقوال الطيبة من الأذكار وغيرها، ويكون الصراط طريق الإسلام وإن كان إخباراً عما يقع منهم في الآخرة فهو قولهم: الحمد لله الذي صدقنا وعده وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة، ويكون الصراط الطريق إلى الجنة. وعن ابن عباس: هو لا إله إلا الله والحمد لله زاد ابن زيد والله أكبر. وعن السدّي القرآن. وحكى الماوردي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعن ابن عباس: هو الحمد لله الذي صدقنا وعده، والظاهر أن {الحميد} وصف لله تعالى. قال ابن عطية: ويحتمل أن يرد بالحميد نفس الطريق، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله: دار الآخرة.

1 | 2 | 3 | 4